لا مكان مثل المنزل
استطلاع عالمي حول العنف في العلاقات الحميمية
تقرير استقصائي
لوشين بِركينس، صحفي، بريد إلكتروني
سوزانا سايجاس، صحفية، بريد إلكتروني
جوانا ليفين، صحفية، بريد إلكتروني
بيير خطار، صحفي، بريد إلكتروني
لا مكان مثل المنزل : استطلاع عالمي حول موضوع العنف في العلاقات الحميمية - سوزانا سايجاس
عائشة ناموينغو امرأة نحيلة ناعمة ذات عينين لوزيتين , بلغت عامها الأربعين وتتمتع بالأناقة والهدوء. تزوجت عائشة عندما بلغت الثامنة عشرة من عمرها وأنجبت ثلاثة أطفال , أصبحت الآن جدة ولها أحفاد. طوال مدة زواجها غالبا ما عانت عائشة من الذل والضرب على يد زوجها ولطالما شعرت بالخوف والحزن والوحدة.
تقص عائشة قصتها وتشرح كيف أنها تزوجت من زوجها لأنه كان يغار كثيراً وكيف أنه بدأ بضربها بعد زواجهما بوقت قصير. وبينماكانت تقص قصتها كانت عيناها الواسعتان تسرحان في التربة الحمراء والهضبات الخضراء البعيدة عن كامبالا. يضربني وعندما يتنهي من ضربي يأتيني ويعتذر لي ويتوقع مني أن أغفر له. كلما حدث ذلك كنت أشعر أنه لم يكن عندي خيارٌ آخر لأنني كنت أخاف أن يظن أقربائي أنني فظة أو غير مهذبة معه.
إن معدل العنف الأسري في أوغاندا وصل إلى مستويات لا تصدق , حيث تعاني 59% من نساء أوغاند-أي ما يعادل ثلاث من خمس نساء-من العنف الأسري في حياتهن . تتواجد معدلات عالية كهذه في بلاد مثل تشاد وطاجيكستان وفانواتو وجمهورية كونغو الديمقراطية.
في إطار هذا المشروع قام فريقنا بجمع أحدث البيانات حول موضوع العنف الأسري في 115 بلداً . وقد تم تعريف العنف الأسري على أنه أي إساءة جسدية أوجنسية بين شريكين في علاقة حميمة. في عينة البلدان الـتي تتألف من 115 وجدنا أن أدنى معدل انتشار لظاهرة العنف الأسري بلغ 5%. ولكن إذا أخذنا 80 بلد من تلك العينة وجدنا أن المعدل يبلغ 20% أو أكثر. وهذا معناه أنه في العديد من البلدان تتعرض امرأة واحدة على الأقل من بين خمس نساء للعنف على يد شريكها.
لقد قمنا بتحليل البيانات المجموعة ثم سافرنا إلى نيكاراغوا والسويد وأوغاندا وكان هدفنا الأساسي هو فهم سبب تفشي ظاهرة العنف الأسري ورواجها إلى هذا الحد. كذلك نسعى إلى معرفة الأسباب التي من ممكن أن تساعد على تخفيف أو منع هذه الظاهرة من الحدوث من بداية الأمر. ويقتصر بحثنا بشكل أساسي على النساء فقط من ضحايا العنف وذلك لكون البيانات المجموعة والمتوافرة تتمحور حول النساء اللواتي يعانين من العنف في علاقات متباينة الجنس, أي أن شركاءهم الحميمين هم من الرجال.
في كل مرة كان زوج عائشة يضربها كان يأتي ويعتذر منها فتسامحه معتقدة أنه سيتغير , إلا أن هذا الوضع استمر لسنوات طويلة وقد ازداد عنفه أكثر فأكثر.
عندما كنت أستمع إلى عائشة شعرت أنها كانت تظن أن دورها في الحياة هو إنجاب الأطفال فقط , وإذا كان الضرب جزءاً من هذا الدور فقد قبلت به كقدر لها. كانت تحدثني عن أسوأ لحظات حياتها وكانت تنتقل بنظرها بين الأرض والسماء. كنت أستمع إلى قصتها وأجد نفسي أشاركها رحلة المعاناة والوحدة.
ومن خلال قصتها عن زواجها المسئ بدأت أستوعب شعور العزلة الذي كانت تعيشه وكأن جسدها كان محاط بجدار يسجنها ويبعدها عن أبسط الخيارات كطلب المساعدة من أهلها.
هذه هي تجربة العنف الأسري التي تعاني منها العديد من النساء في جميع أنحاء العالم بغض النظر إن كنّ متعلِّمات أم أميّات , ثريّات أم فقيرات , أوروبيّات أم أفريقيّات أم من أمريكا اللاتينية. يصبحن معزولات ويعشن في خوف يشل أعصابهن.
لا تريد عائشة أن تخوض في تفاصيل معاناتها مع زوجها وكيف كان يضربها، وتبقى متحفظة في كلامها فهي لا تشير إلى الضرب باستخدام كلمة (الضرب) بل تستخدم عوضا عنها تعبير (إساءة المعاملة). إن رباطة جأشها واتزانها يثيران إعجابي ولكن يحبطاني في نفس الوقت , فأسأل نفسي مراراً وتكراراً لماذا تتغاضى عن الموضوع وكيف تستطيع أن تتغاضى عنه؟ هل تعتقد حقاً أنها تستحق ما يحصل لها من الضرب؟
عندما ازداد الضرب لم تعد عائشة تهتم بما سيقوله الأهل والأصدقاء فهجرت زوجها لمدة سنتين. وبالرغم من الانزعاج الواضح على وجهها من ذكر القصة تحاملت عائشة على نفسها وأخبرتنا أن زوجها بدأ بعلاقة جديدة مع امرأة جديدة أثناء غيابها. كانت عائشة تذهب إليه من حين إلى آخر لطلب النقود من أجل طفلهما الثالث الذي كان رضيعاً عندئذٍ. ولكن بعد سنتين استطاعت حماتها أن تقنعها بالعودة إلى زوجها وبالفعل فعلت ذلك وهي تأمل أنه سيتغير.
تخبرني عائشة هذا والدموع تنهمر من عينيها: لقد ترجّوني أن أعود ولكنهم لم يعلموا أن المرأة التي كان زوجي يعاشرها مصابة بمرض الإيدز وأنها عدته به.
من شدة بكائها لم تستطع عائشة أن تكمل جملتها فقام مترجمنا الفوري بإخباري بهدوء عن القصة التي تريد عائشة إخبارنا بها بلغتها الأصلية اللوغاندية فقال: عندما رجعتْ إليه مارستْ الجنس معه وانتقل إليها الإيدز , وهذا هو سبب انهيارها الآن.
عندئذٍ لم تعرف عائشة أنها أصيبت بمرض الإيدز ولكن فيما بعد عندما رأت المرأة التي كان زوجها يعاشرها تمشي في المدينة وقد أصابها الطفح والنحول الشديد شكَّت أن هذه المرأة قد تكون مصابة بمرض الإيدز , ثم عندما بدأ زرجها يمرض بشكل متكرر أيقنت أنه ربما يكون هو أيضاً مصاباً بالإيدز. فذهبت معه لإجراء الفحوصات الطبية وبالفعل ظهر أن كليهما مصابٌ بالإيدز.
سنوات عدة مرت وعائشة مازالت مع زوجها وقد ازداد الوضع سوءاً تقول الآن أنا مصابة بالإيدز وزوجي يمنعني من دخول البيت , لم أشرب أي ماء ولم أفعل أي شي , وقد حان وقت أخذ الدواء
في تلك اللحظة عرفت عائشة أنه يتوجب عليها أن تترك زوجها لأن تناول الدواء أمر مهم جداً, يجب عليها أن تغير هذا الوضع وإلا ستموت
اليوم تبدو عائشة ضعيفة وواهنة في ثوبها الطويل إلى الأرض وبأكمامه المنفوشة كما هو اللباس التقليدي في أوغاندا والمسمى (جامسي). لقد عاشت عشرين سنة وهي مصابة بمرض الإيدز ومن حسن الحظ أن أطفالها لم يصابوا بالمرض. لا تجرؤ العديد من النساء أن يطلبن من أزواجهن إجراء فحوصات طبية لأن الكثير من الأزواج يرفضون. ومن هنا نرى كيف يعرض العنف النساء إلى خطر العدوى بالإيدز لأنهن لن يستطعن أن يرفضن ممارسة الجنس مع أزواجهن . تخبرني عائشة بذلك وصدرها مليئ بالهموم كشخص عاش مرارة طويلة.
يتفاقم العنف الأسري في أوغاندا بوجود معدلات عالية من مرض الإيدز والخيانات الزوجية. ساعدت حملات التأييد السياسية والشعبية المكثفة على دفع حكومة أوغاندا لسن قانون العنف الأسري في عام2010.
ولكن ما هي العناصر الاجتماعية التي تلعب دوراً في تحديد مستوى انتشار العنف الأسري في بلد ما سواء بلغ هذا المعدل 28% أو 29% أو78%؟ هل نستطيع أن نحصل على معلومات تفيدنا في العمل على تخفيف العنف في كل مكان ؟ إن العنصر الذي تكرر باستمرار أثناء تحليلنا للبيانات واستطلاعنا للآراء في الميدان هو سلوك المجتمع اتجاه موضوع العنف الأسري وبخاصة سلوك النساء اتجاه العنف الأسري.
على مر السنين قامت حملات استطلاع الرأي بسؤال النساء إن كن يعتقدن أن الضرب مقبول به تحت ظروف معينة ولأسباب معينة مثل حرق الطعام أو رفض ممارسة الجنس مع الشريك. وجدنا أنّ هناك صلة واضحة بين السلوك الاجتماعي اتجاه العنف الأسري ومعدل انتشاره في البلد, وقد أصدرت المنظمة الدولية للتعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) تقريراً في آذار عام 2013 يبين أن معدل انتشار العنف الأسري يتضاعف في البلاد التي يتقبل الناس فيها العنف الأسري مقارنة بالبلاد التي تكون فيها درجة تقبل العنف أقل.
وبعد أن تم إدراك أن القانون وحده لايكفي قامت كل من المنظمتين (Raising Voices)أي (إعلاء الأصوات) و (مركز منع العنف الأسري) باتباع أسلوب وسياسة جديدة في جهودهما لتغيير سلوك الناس. فهما تعملان مع الرجال والنساء معاً من أجل توعيتهم وتغيير طريقة تفكيرهم وبالتالي تغيير طريقة تصرفاتهم.
أخبرتنا روز ناموتيبي التي تبلغ 70 من العمر والتي تعمل كمستشارة في أمور الزواج التقليدي أن النساء اعتدن أن يأتين إليها ليخبرنها أنهن يتعرضن للعنف والاضطهاد على أيدي أزواجهن , وكان جوابها دائماً : إنه زوجك وعليك احتمال ضربه ، أما الآن وبعد حملات التوعية التي يقوم الناشطون بها في منطقتها تغير ردها وأصبحت تقول لهؤلاء النساء: إن زوجك يخالف القانون بضربه لك
إن تغيير سلوك الأفراد يحتاج إلى صبر طويل وتوعية اجتماعية متواصلة. ولكن العنصر الاجتماعي الآخر الذي يؤثر مباشرة على معدلات انتشار العنف الأسري هو مدى استقلال النساء المادي والمالي. فمن الطبيعي أن يتردد شخص ما في ترك الشريك وهجره إن كان هذا الشخص معتمداً ومتكلاً مالياً على شريكه. وتظهر بياناتنا أن معدل العنف الأسري في البلدان التي تحد من وصول النساء إلى المال أعلى بمرتين من البلدان التي تمنح نساءها فرصاً متساوية مع الرجال في الحصول على المال. كذلك الأمر بالنسبة للبلدان التي تسمح لنسائها بحق تملك الأراضي الزراعية, حيث تكون فيها معدلات العنف الأسري أقل من البلدان التي لا تُمنَح النساء فيها حق الملكية.
تقوم غريس لوانغا العاملة في مركز منع العنف الأسري في كامبالا بنصح النساء أن يقمن بعمل شيء لم تعتد النساء في أوغاندا على القيام به من قبل وهو أن يسجلن ملكية بيوتهن بأسمائهن. حتى النساء في الطبقة العاملة عندما أتحدث إليهن , تجدين أن لديك عمل وتكسبين المال ولكن عندما تريدين أن تشتري أرضاً يقول لك الزعماء المحليون : -لا, عليك تسجيل العقار باسم زوجك- وبالفعل عندما تقعين في ورطة لا تكون ملكية العقار لك.
في النصف الآخر من العالم في نيكاراغوا يبلغ معدل العنف الأسري نصف مايبلغه في أوغاندا, وذلك يعود لوجود توعية أكبر حول العنف الأسري ووجود تقبل أقل بواقعه. ومع ذلك يبقى القضاء الكامل على ممارسات العنف التي تمت ممارستها عبر أجيال تحدياً كبيراً
في مكان بعيد وخلف جدران مرتفعة خارج مدينة ماناغوا التقيت بالشابة الجميلة غراسييلا. تبلغ غراسييلا 32 سنة وهي أم لطفلين. عانت لمدة 8 سنوات من الإساءة العاطفية والجسدية على يد زوجها. طلبت مني غراسييلا عدم الإفصاح عن اسمها الحقيقي أو إظهار وجهها. فهي تخاف أن يجدها زوجها المعتدي ويقتلها بعد أن هجرته.
غراسييلا واحدة من 29% من النساء في نيكاراغوا اللواتي يعانين من العنف الأسري . و بهذا المعدل لا تختلف نيكاراغوا كثيراً عن بلاد أخرى مثل بريطانيا والباربادوس وفينلاندا ونيوزيلاندا
غراسييلا هي واحدة من الضحايا الكثيرة أو مايسميهم الناشطون (الناجين) من العنف الأسري. مثل بقية الضحايا تحملت غراسييلا الإساءة والاضطهاد لأنها كانت تخاف من الظالم المعتدي. لقد عاشت معه وهي تخشى ماقد يفعله بها إن هي رحلت وتركته. ومع العلم بأن تجارب العنف الأسري تجارب فريدة ومختلفة وكل منها لها حالتها الخاصة إلا أن جميع ضحايا العنف على اختلاف قومياتهم وثقافاتهم يعيشون إحساساً عميقاً ومعيقاً بالعزلة
يقول لي : ستموتين ويصوب مسدسه باتجاهي. لم أعد أستطيع احتمال ذلك. كنت قد عشت هناك على هذا المنوال لمدة ستة أشهر. وكنت عندئذ حاملاً في الشهر السادس. ثم ولدت ابنتي, فهدد بقتلها إن لم أرض بالبقاء والعيش معه. وقال لي إنه سيقتلني أنا وابنتنا, حتى أنه هدد بقتل أمي أيضا إن لم أبق معه.
هذا الإحساس بالعزلة غالباً ما يبدأ بالظهور ببطء إلى جانب الازدياد التدريجي للعنف. ولأن هذا الإحساس يظهر تدريجياً لا تشعر العديد من النساء بأنهن عالقات في هذا الوضع.
في ليلة ما وبفترة وجيزة من ولادة ابنهما الثاني رفع زوج غراسييلا السكين ووضعها على رضيعهما الذي لم يتجاوز الثلاثة أشهر وهدد بقتله. في تلك اللحظة وتماما كما حدث مع عائشة في أوغاندا أدركت غراسييلا الخطر المحدق بها وبأطفالها فقررت أن تجد طريقة للخروج من هذا الوضع.
حدثتنا غراسييلا وقد غلبها البكاء: إن أكثر ما يؤلمني هو أن طفلتي شهدت كل ما جرى وهي تذكر. يؤلمني جداً أنها تذكر كل شيء وتقول إن أباها شخصٌ سيئ. تقول دائماً إنه رجل سيئ. هي لا تنسى أبداً.
عندما كانت غراسييلا تحدثني عما مرت به أثناء زواجها لم أتمالك نفسي من الاستغراب كيف يستطيع شخص
ما رفع سكينٍ على طفل رضيع. شعرت بحزن عميق. ألا يكفيها أن زوجها يضربها بلا وعي وفوق ذلك وجب عليها أن ترى كيف يهدد هذا الرجل الذي أحبته ذات يوم أطفالها.
تحاول لوز توريس أن تقلب موجة العنف وتصنع طريق حياة جديدة للعديد من النساء مثل غراسييلا.
لوز ناشطة جدية ذات صوت مبحوح تدير (تجمع نساء الثامن من آذار) وهي منظمة تشمل مركزاً وملجأً وعدة برامج لزيادة التوعية ، ويقوم المركز باستقبال زيارات ضحايا العنف بنشاط دائم.
لوز أيضاً تمثل دور الأم لفريق كامل من المتطوعين الذين يعملون كمبعوثين لها داخل وحول بلدة ماناغوا. ويعمل كل متطوع في منطقة نشاطه ومهمتهم هي زيادة التوعية حول موضوع العنف الأسري وكيفية منع حدوثه. كما أنهم يهدفون إلى إعلام النساء بأنه توجد لديهن خيارات أخرى في حال تعرضهن للعنف. فلا يريد أي منهم رؤية المزيد من القتل والموت بسبب العنف الأسري كما حصل مع جوهانا غونزالس.
كانت جوهانا معلمة في مدرسة وأم لطفلين. بلغت 37 من العمر , وبعد عشر سنوات من العيش في زواج مسيء وظالم تمكنت من ترك زوجها. إلا أنه وبعد شهر واحد من تركها له ترقبها ذات صباح عندما كانت تنزل من الباص في طريقها إلى العمل وقتلها. إن ما حصل لجوهانا هو بالذات ما تخشى حدوثه العديد من النساء اللواتي يعانين من علاقات مسيئة وهو أيضاً ذات السبب الذي من أجله يبقين مع أزواجهن.
حتى الآن في هذا العام قتلت 47 امرأة على يد شركائهن في نيكاراغوا , هذا البلد التي يبلغ تعداد سكانها ستة ملايين نسمة. وبحسب بيانات شبكة (نساء نيكاراغوا ضد العنف) التي تحتفظ بأرشيف لجميع جرائم العنف الأسري فإن عدد الجرائم هذا العام أعلى من العام الماضي بـ 17جريمة. وتطلق هذه المنظمة على جرائم العنف الأسري هذه اسم (فيميسايد) أي (جرائم قتل النساء).
تخبرني لوز أن الوضع قد تفاقم حتى وصل إلى مستويات مقلقة جداً. إن خيبتها تكمن في أن الحكومة لا تقوم بتبليغ الأرقام الحقيقة لحالات العنف الأسري ضد النساء. فمثلا أعلنت المحكومة عن 18 جريمة بالمقارنة مع 47 جريمة تم توثيقها من قبل المراقبين في هذا العام فقط. ماذا تستطيعين أن تفهمي من ذلك؟” تسأل لوز بغضب وسخط, لانستطيع أن نعتمد على الأرقام الرسمية الحكومية.
تأخذني لوز لأقابل عائلة جوهانا في بلدة ماسايا التي تبعد حوالي ساعة عن ماناغوا. عمتها إمّا مينا تقوم بوضع اللمسات الأخيرة على مذبح الكنيسة المؤقت قبل إقامة الصلوات على روح جوهانا.
تحت لوحة مريم العذراء تظهر صورة جوهانا التي تبدو فيها شابة قوية ومتأملة ومفعمة بالشباب, لا تستحق أن تدفن في هذا العمر في المقبرة المحلية للمدينة. مازال التراب على قبرها رطباً وغير مرصوصاً تغطيه الشرائط البيضاء والأرجوانية.
تقول عمتها وقد تورم جفناها من البكاء: قلت لها مرة أن تتركه إلا أنها كانت خائفة مما قد يحدث لها وما قد يفعله لأطفالها. جوهانا لم ترد أن تتحدث كثيراً عن الموضوع.
وما أزال أسمع بأن التوعية والحديث والتأكد أن ضحايا العنف الأسري يعلمن أن لديهن خيارات أخرى هو شيء أساسي لهن لاتخاذ القرار بترك هذه العلاقات العنيفة. أما جوهانا وغراسييلا وعائشة كلهن تغلبن على تحديات كبيرة وتخطين حاجز العزلة المرتفع.
هل نستطيع أن نمنع هذا الحاجز من التشكل من بداية الأمر؟ كيف نستطيع أن نتأكد بأن الضحايا يعرفن حقوقهن وخياراتهن؟ كيف نستطيع ان ننهي هذا الألم الذي يسببه العنف الأسري للأفراد وعائلاتهم؟ كيف نستطيع أن نوقف العنف قبل أن يبدأ؟
تكمن صعوبة التحدث إلى الأصدقاء عن العنف الأسري الذي تعتاد الضحايا عليه في البيت في عدد من الأسباب. من أهم هذه الأسباب هو أن المعتدى عليه أي الضحية سيحاول قصارى جهده تجنب إغضاب المعتدي ودفعه للقيام بمزيد من الضرب. فيصبح القيام حتى بأبسط وأتفه الأشياء التي قد تسبب إلى تفجير موجة جديدة من الإساءة العاطفية والجسدية غير وارد. ولكن طلب المساعدة بعد أول حادثة عنف قد تكون أفضل فرصة للتخلص والهروب من هذه المشكلة.
نظرت لوز إلي مباشرة بكل تصميم وقالت: المشكلة أننا عندما لا نعالج المشكلة تصبح وباء, وللأسف فإن الحكومة النيكراغوية لا تتولى أمر العنف ضد النساء لذلك تتحول هذه المشكلة إلى وباء. إن المشكلة اليومية هنا هي الضغط. ليست الحكومة النيكاراغوية من يتناول موضوع العنف الأسري بل هي منظمات النساء. أين هي الحكومة عندما تموت آلاف النساء على شاكلة جوهانا؟.
ومع ذلك تم اتخاذ بعض الإجراءات في هذا الاتجاه. ففي وقت ليس ببعيد , لم تعتبر دولة نيكاراغوا الرجل الذي يضرب زوجته مجرماً , إلا أن الحكومة قامت في عام 2012 بسن قانون يحمي المرأة جسدياً وعاطفياً واقتصادياً. وتود لوز وزميلاتها من الناشطات لو أن الحكومة تركز على الإجراءات الوقائية أكثر من التركيز على الإجراءات العقابية.
ولكون ظاهرة العنف الأسري واسعة الانتشار قد نعتقد أن هذه المشكلة كاسحة وعسيرة العلاج, إلا أننا من خلال تحليل بياناتنا بالإضافة إلى مقابلاتنا مع الضحايا والعاملين معهم استنتجنا أن هناك بعض الأشياء التي ممكن أن تساعد الأشخاص على تجنب الإساءة أو الخلاص منها عند حدوثها.
جمعت أورب ميديا بيانات عالمية حول انتشار العنف الأسري والتشريعات القانونية التي تجعل هذه الظاهرة جريمة يحاسب عليها القانون. وقد أشارت هذه البيانات إلى أن معدل العنف الأسري في البلدان التي تنص قوانين تجعل ضرب الزوجة أو تشويهها أو اغتصابها جريمة أقل بـ 5% من معدل العنف في البلدان التي تغيب فيها هذه القوانين. ففي العديد من الحالات عندما تعلم النساء أن هناك قانون يعالج هذا الموضوع يتشجعن على طلب المساعدة.
لقد أردنا أن نقوم بمقابلة مع ممثلين عن الحكومة النيكاراغوية لنتحدث معهم بشأن هذا القانون والإجراءات التي تقوم بها الحكومة لمنع العنف ضد النساء ، إلا أننا لم نحظ برد منهم. لذلك قمت بزيارة سيرجو راميريز الكاتب النيكاراغوي والنائب السابق للرئيس الذي قال إن القانون وحده ليس كافياً.
يجب أن يكون القانون جزءاً من تغيير كامل في الجو العام وهذا معناه أنه يتوجب وجود سياسات تهدف إلى توفير حماية الدولة لحقوق النساء وحملات الصحة العامة. لأن هذه الظاهرة هي جزء من مشكلة الصحة العامة وليس فقط موضوع إدانة لإساءة المعاملة.
وبالرغم من ذلك فإن حمل امرأة ما على ترك علاقتها المسيئة يبقى أمراً صعباً جداً.
وقد سألت غرسييلا ماذا ستفعل لتنهي العنف الأسري فكانت إجابتها مشابهة لإجابة العديد من النساء اللواتي يعانين من هذه المشكلة. قالت: عندما تواجهين العنف لأول مرة وتشعرين بسوء تكلمي عن الموضوع ، بلغي عنه أو اذهبي إلى المنظمات، وإن لم تصغ لك الحكومة، دعي منظمات النساء تستمع إليك ، نعم هناك خيارات متعددة.
سمعت عن تجارب مماثلة لتجربة غراسييلا عندما زرت فيفكا هولست العضوة في مجلس إدارة منظمة الملجأ السويدية ROKS. تنسق هذه المنظمة أكثر من مئة ملجأ للنساء اللواتي يعانين من العنف الأسري في السويد.
ذهبت إلى مقابلة فيفكا لأنني واجهت صعوبة في إيجاد ضحية من ضحايا العنف لأجري معها مقابلة ، وذلك لأن قانون حصانة الحياة الشخصية في السويد قوي جداً ولا يسمح بالوصول إلى هؤلاء الضحايا بسهولة. ولكن عندما جلست مع فيفكا في غرفة المقابلة المطلة على مركز مدينة ستوكهولم تفاجأت بأن فيفكا بحد ذاتها كانت ضحية من ضحايا العنف الأسري.
بدأ كل شيء عندما أخذ يتحكم بي ، يعزلني ، ويؤذيني بكلماته. لقد كنت متزوجة من رجل عنيف لمدة خمسة عشر عاماً. مرت عدة سنوات قبل أن نيقن أنه يغتصبني. كان رجلاً معروفاً جداً وكنت واثقة من أنه لن يصدقني أحد. كل الناس كانت تحبه فقد كان شخصية منفتحة وساحرة ومحبوبة من قبل الجميع, لذلك لم أقل لأحد.
لم تقتصر هذه الصدمة على فيفكا وحدها بل امتدت لتطال ابنها ، فقد علمت من ابنها مؤخراً -أي 20 عاماً بعد تفاقم العنف في زواجها- أنه في طفولته كان يحتفظ بمضرب بيسبول في سريره أثناء الليل. قال: إنه سيقتل أباه إن جاء إليه . إذاً فالطفل كان يعلم بكل شيء.
إن نتائج العنف لا تقتصر فقط على الصدمة العاطفية و الجسدية والنفسية ، بل هناك عواقب صحية أخرى. وقد تكلم طبيب الأطفال الأمريكي ستيفن لوكاس الذي يعمل الآن في السويد كباحث في المركز الوطني للمعرفة حول عنف الرجال ضد النساء في جامعة أوبسالا.
نلاحظ أن أولئك الأشخاص الذين تعرضوا للعنف في مراحل سابقة في حياتهم يعانون من صحة ضعيفة في عدة نواحي ، فتكثر بينهم حالات الاكتئاب وتظهر فيهم علامات إضراب الشدة عقب الرضية بالإضافة إلى علامات أمراض نفسية. إضافة إلى ذلك وجدنا أن النساء المتقدمات في السن أربع مرات أكثر عرضة للإصابة بجلطات وذبحات قلبية إن كن قد تعرضن لعنف في السابق.
تعتقد فيفكا أن مرض الروماتيزم الذي تعاني منه ظهر نتيجة للعنف الذي عاشته أثناء زواجها. فتقول فيفكا الشقراء والبالغة من العمر الآن 65 سنة: ليس لدي دليل علمي ولكني مقتنعة تماماً أن نظام مناعتي قد ثار من جراء تعرضي للعنف ويهاجم الآن مفاصلي.
وكمعظم الضحايا الآخرين جاء اليوم الذي أيقنت فيفكا فيه أنها لن تستمر على هذا الحال. قالت: كسر أنفي … وصل إلى هذا الحد. هذا يكفي! بعد 15 سنة تغير شيء ما في داخلها واستجمعت قوتها وتركته. بالفعل لقد تسلقت فوق الحاجز.
بعد أن قابلت فيفكا بعدة أيام التقيت بأنّا لينا ميلكيست التي تدير (ملجأ أوليفيا) للنساء الذي يقع في شارع مرصوف بالأكواخ الخشبية في بلدة ألينغساس غرب السويد.
إن ميلكيست امرأة سياسة محلية وناشطة نسوية في 64 من العمر. رأت المئات من النساء اللواتي يأتين إلى الملجأ الذي تديره. تؤكد ميلكيست أن تجاربهن تتشابه في معظم الأحيان، لا تنتبهين كيف تغيرين نفسك لتصبحي كما يريدك هو! كل هذا يحدث ببطء ولا تلحظين كيف يحدث هذا التغيير! في بداية الأمر عندما يزداد لؤمه معك يأتي ويقول : “أنا آسف , لا أدري كيف أستطيع أن أكون بهذا اللؤم معك؟” , “أنت حياتي” , “أنا أحبك” .
تتحدث ميلكيست بلهجة المتحسر وتقول: ..وهكذا تغفر له وتقول : “لا بأس , لا بد أن يومك كان صعباً في العمل”. ربما تكونان قد اشتريتما بيتاً معاً أو يكون عندكما طفل صغير, وهكذا تصبحين عالقة في هذا الوضع. كل هذا يحدث ببطء , وهكذا يسيطر على حياتك دون أن تلاحظي.
أظهرت دراسة قام بها الاتحاد الأوروبي بعنوان “العنف ضد النساء” أن معدل انتشار العنف الأسري في السويد يبلغ 28% أي نسبة مئوية واحدة أقل من المعدل في نيكاراغوا. من الصعب جداً أن نعرف مستوى التعتيم عن هذا الموضوع ولكن بقيت هذه النسبة مثيرة للصدمة بالنسبة لي. لم أظن أبداً أن العنف ضد النساء ممكن أن يكون مشكلة موجودة في السويد.
وعندما سألت إن كانت ظاهرة العنف الأسري متعلقة بطبيعة الجو البارد والليالي الطويلة ومن التعسف في شرب الكحول، ضحكوا مني بكل تهذيب ولطافة. لخصت فيفكا لي بكل بساطة مشكلة العنف الأسري وقالت: يمارس الرجال العنف ليكونوا في موقع قوة وسلطة وتحكم بالنساء. يريدون أن يكونوا هم المتحكمين وهم الذين يصنعون القرار في كل مجالات الحياة.
هل نستطيع أن نقضي على العنف الأسري؟ وإن كان هذا ممكناً كيف نستطيع فعل ذلك؟ أن العنف الأسري هو ظاهرة اجتماعية معقدة جداً ولا توجد إجابة واحدة بسيطة على هذه المسألة
ومع ذلك فإن أنّا لينا لديها خطوة أولية واضحة جداً. فهي تنصح النساء أن يطلبن العون من الأصدقاء لكي يخرجن من العزلة التي يسجن أنفسهن فيها: أخبريهم , ولكن يجب أن يكون أصدقاؤك هؤلاء موقع ثقة. ولكن اتركيه قبل فوات الآوان. هذه أفضل نصيحة يمكن أن تقديميها إلى امرأة تتعرض للعنف.
تتابع أنّا لينا بقناعة تامة قائلة: هو لن يتغير ، يؤسفني أن أقول ذلك ولكنه لن يتغير وأنني على حق في معظم الأحيان ، لأن أولئك اللواتي لم يستمعن إلى هذه النصيحة من أحد لم ينجين. هذه مشكلة كبيرة في العالم
جميع ضحايا العنف الأسري اللواتي التقيت بهن استطعن أن يحررن أنفسهن من حاجز العزلة. فيفكا طلبت العون من عائلتها وأصدقائها. اشترت شقة وأصبحت ناشطة معتمدة تعمل لمنع العنف في السويد. كبر أطفالها واستطاعوا تجاوز هذه التجربة المؤلمة.
أما عائشة فقد ذهبت إلى ملجأ للنساء اسمه “أكشن إيد” أي (المساعدة بالعمل) وبفضل قانون العنف الأسري في أوغندا أُجبِر زوجها على دفع تعويض شهري لها وقد وجدت عائشة عملاً شريفاً كعاملة تنظيفات تكنس شوارع كامبالا الوسخة ومازالت تتعالج من مرض الإيدز.
أما غراسييلا التي هددها زوجها بالسكين مازالت مختبئة في ملجأ في نيكاراغوا وهي خائفة أن يجدها فيقتلها. ولكن بالطبع مازالت مليئة بالأحلام فقد استطاعت أن تشتري قطعة أرض صغيرة بفضل مبادرة حكومية لمساعدة الأمهات الوحيدات. كذلك تريد غراسييلا أن تدرس لتصبح سكرتيرة لأنها تريد توفير حياة أفضل لأطفالها ، مثلها مثل جميع الأهل في جميع أنحاء العالم. أصبح الملجأ الآن حبل نجاتها ولكن الخطوة الأولى كانت تخطي حاجز العزلة.
أجريت مقابلات مع العديد من النساء اللواتي تعرضن للإساءة وكذلك العديد من الرجال والنساء الذين بذلوا أنفسهم من أجل منع العنف الأسري. بقيت قصصهم وشجاعتهم والتزامهم بالقضية ملازمة لي حتى بعد لقائنا
ومن حسن حظي أنني التقيت بأنجيلا بوسينغ في السويد بضعة أيام قبل تقاعدها.
تبلغ أنجيلا السادسة والستين من العمر وتعتقد أنجيلا أن لكل منا دوره في الحياة وتقول:
“إذا لاحظت أن أي صديقة لك توقفت عن مرافقتك إلى الحفلات أو الخروج معك لتناول العشاء أو حتى التنزه أو الذهاب إلى السوق فيجب عليك أن تنتبهي لها ، قد تكون تمر بوقت عصيب ، لا تنسيها.”