in the midst of water

كيف تطال كلفة ارتفاع منسوب المياه حياتنا جميعاً

تقرير استقصائي - أنيا جيسادلو، صحفية، بريد إلكتروني

بريثي نالو، صحفية، البريد الإلكتروني


 

Cochin, India - In the morning, before she left for work, Ambika Thankappan called her son Arun to tell him their world was about to sink.

"Da, you flooded the neighboring villages with the water that started to reach ours," she said in a calm voice, using the affectionate word for "boy" in Malayalam.

He replied, "I'll be there in an hour."

Aaron got on his motorcycle and drove home in the rain. But the water level was about a foot and a half (18 centimeters) and rising. His goal was to get home in time before the waters swallowed up everything he and his family had worked all their lives to build: the house and everything they loved, including Messi, their yellow dog whose guilt licks and licks their faces constantly.

On any normal day, Arun works in a shop at Cochin International Airport, in the coastal state of Kerala in southwest India. At the airport itself, Ambica assembles and aligns the carriages to serve passengers. In Imokali, Florida, a man by the name of Wilson Perez spends his typical day picking tomatoes. And in Toronto, two men - Cleaver Freire and Gabriel O'Tren - do something that 81 million people ( 1 ) do on a daily basis: ride an elevator, unexpectedly fighting for their lives inside.

August 15, 2018 - which coincided with India's Independence Day - was not an ordinary day for Arun and his mother. That morning, after three days of continuous torrential rain, the water level began to rise. and rises.

Ambika later said, "I will never be able to erase the memory of August 15th. We never expected the water level to rise to this degree." Then she sobbed.

Aaron's frantic journey took two and a half hours, crossing flooded roads to reach his home. He was reassured when he found the house dry and "Messi" fine in the garden. So he went to check on the neighbors who lived in the lush green plains behind Cochin Airport - the first airport of its kind in the world in terms of its complete dependence on solar energy. ( 2 )

But the water was starting to rise inside the airport and reached the solar panels. And in the afternoon, it began to burst through the wall behind the runway with the force of the bursting waters from the dam.

Aaron climbed up the wall to see better. He stood there for a long time, astonished by the sight of the violent muddy waters.

Suddenly, he panicked, as he realized that the water would reach their house in a matter of minutes, to wash away "Messi" and all their belongings with its current.

قبل اليوم، غالباً ما كان العلماء يضعون مفهوم التغيير المناخي في إطار المستقبل: المدن التي ستغرق بحلول العام 2050 (3) أو العام 2100(4) أو في خلال الأعوام الخمسين أو المئة أو المئتين المقبلة.(5) لكن هذا المستقبل المائي بات حاضراً بالنسبة إلى عددٍ متزايدٍ من الناس حول العالم.

وقد صدر عن هيئة الأمم المتحدة الحكومية الدولية المعنية بتغيير المناخ تقريراً تاريخياً يوم الإثنين، 8 تشرين الأول/ أكتوبر، تمّت فيه الإشارة إلى أن درجة حرارة عالمنا قد ارتفعت . وحذّر الروّاد في علم المناخ في العالم أنه في غياب "تغييرات سريعة وشاملة وغير مسبوقة في كافة نواحي المجتمع،" سيبلغ ارتفاع حرارة الاحتباس الحراري أكثر من 1،5 درجة مئوية في مدّة أقرب بكثير مما كان متوقعاً – أي في غضون إثني عشر عاماً – مما سيؤدّي إلى ازدياد في احتمال حدوث فيضانات وموجات حرّ وجفاف.

وقال بانماو زاي، وهو المشارك في رئاسة فريق عمل الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيير المناخ على العلم الفيزيائي للتغيير المناخي: "إحدى أهم وأبرز النقاط الصادرة عن هذا التقرير هي أننا بدأنا نشهد على تبعات الدرجة المئوية الواحدة من الاحتباس الحراري، وذلك من خلال تكاثر حوادث الطقس البالغة حدّتها وارتفاع منسوب مياه البحر وذوبان الجليد في بحر القطب الشمالي."

أمّا أحد أكثر هذه التغييرات فوريةً وواقعية، فهو الفيضان. ففيما يولّد التصاعد في درجات الحرارة إرتفاعاً في منسوب مياه البحر، بدأ عددٌ متزايدٌ من الناس تعلّم كيفية العيش مع الفيضانات الكارثية. ويجد الكثير منهم طرقاً مبتكرة للتكيّف مع الوضع الجديد. لكن يأتي كل هذا بثمنٍ يدفعونه هم بالدرجة الأولى، علماً أننا نتحمّل عبأه جميعاً في نهاية المطاف.

يحاول علماء الاقتصاد تحساب التأثيرات البعيدة الأمد لعالمنا المغمور بالمياه على سلاسل التجارة العالمية والناتج المحلي الإجمالي الوطني لكل بلد والمدخول الأسري وعدم المساواة. لكن أبحاثهم الناشئة تدلّ على أن الكلفة البشرية والمادية للفيضانات وصلت إلى مستويات أعلى بكثير من أقصى التوقعات، كما أنها تدوم لفترةٍ أطول. وقد وجدت إحدى آخر الدراسات(6) أن مجموع الخسائر الاقتصادية الناتجة عن فيضان الأنهر بسبب التغيير المناخي سيؤدّي إلى ارتفاع بنسبة 17 في المئة للخسائر الإقتصادية عالمياً خلال السنوات العشرين المقبلة، ما لم يتمّ تطبيق تعديلات بنيوية على مستوى شامل.

“وتحدّث إلينا أمير جينا في هذا الصدد، وهو أستاذ في جامعة شيكاغو يعمل مع (Climate Impact Lab (7 - مشروع التعاون بين علماء مناخ و علماء اقتصاد ومهندسي بيانات ومحلّلي مخاطر، هدفُه محاولة قياس الكمّ الشامل لتأثيرات التغيير المناخي - فقال: "إذا ما اقتصرت عملية تعدادنا على احتساب الكلفة المباشرة لفيضانٍ ما على المنازل التي غمرتها المياه، والثمن الذي دُفع لكفالة مالكي تلك المنازل، كما وثمن ترميم البنى التحتية وغيرها من الأمور المماثلة، فمن المحتمل عندها أن تكون فاتتنا التكاليف الباهظة والمخفيّة لتلك الفيضانات."

منذ أربع سنوات، قام جينا بالتعاون مع باحثٍ آخر، وهو سولومون م. جيانغ، بدراسة تأثيرات الأعاصير على المداخيل الوطنية، علماً أن الفيضانات الناتجة عنها تشكّل جزءاً كبيراً من الكلفة. وقال جينا: "وجدنا أمراً أعتقد أنه فاجأ الكثير من الناس، بما فيهم نحن، إذ يبقى مستوى الناتج المحلي الإجمالي منخفضاً في تلك البلدان حتى بعد مرور عشرين عاماً على الإعصار."

وعلى غرار أرون وآمبيكا، غالباً ما يكون سكّان المناطق الواقعة في مسار الفيضان عادةّ يشكّلون القوة العاملة المسؤولة عن المهام اليومية الصغيرة التي تحافظ على مسار الاقتصاد العالمي. ولأن تأثير الفيضانات عليهم أكثر شدّةً ، فالمحتمل أن تستغرقهم عملية التعافي عدّة عقود. وبالتالي، ينتهي بنا الأمر جميعاً تحت وطأة الضرر الذي يُلحق بهم – حتى إذا لم نسكن على مقربة من البحر.

وأشار جينا: "هذه ليست مشكلة لسكّان السواحل وحسب، بل إنها مشكلة الجميع."

التأثيرات الاقتصادية المتسلسلة

هناك قول شائع في اللغة المالايالامية عن "أونام"، وهو مهرجان القطاف السنوي: حضّر وليمتك احتفالاً بـ"أونام" حتى لو اضطررك الأمر إلى بيع بذور الموسم المقبل. وتشير الوجبة إلى نهاية موسم الرياح الموسمية التي تجلب القلّة في المحصود كما إلى العودة إلى الحياة المريحة.

في السنوات المعتادة، تتكوّن وليمة "أونام" من العشرات من مأكولات كيرلا الشهيرة والمقدّمة على أطباق من ورق الموز ومرفقة بـ"بابادام" و"باياسام"، أي نوع من الحلوى (بودينغ) الاحتفالية التي تحتوي على المكسّرات. تعرّضت كيرلا لأضرار جسيمة خلال الفيضان. لكن إحدى أكبر الخسائر كانت غير ملموسة: "أونام".

فضلاً عن الأضرار الفورية والمباشرة، يؤدّي كل فيضان إلى سلسلة من التأثيرات الطويلة الأمد والواسعة النطاق – وهي ما يعرّف عنها محلّلو المخاطر بـ"التكاليف المتسلسلة" – التي تموج نحو الخارج فتطال بلداناً وأنظمة إقتصادية وحياة سكّان. وتكون بعض التكاليف ملموسة، فيجوز استردادها مع الوقت؛ أمّا غيرها من التكاليف الأقل التماساً، فغالباً ما لا يمكن التعويض عنها.

وقال كاسيريس: "ليس من الصعب استبدال مبنى أو تجفيفه أو القيام بما يتوجّب فعله. لكن يحتمل أن يولّد الوقت الضائع والخسارة الإنتاجية جرّاء أعمال الترميم القائمة على منشأة ما أثراً عالمياً."

ويشكّل مطار كوتشين مثالاً على ذلك. عندما اكتشفت أمبيكا أنها خسرت منزلها وما فيه من ممتلكاتها جرّاء الفيضان، قرّرت مواجهة ألمها الرهيب بالعودة إلى العمل.

إبتداءً من 18 آب/ أغسطس، ولمدّة ستة أيام، عملت أمبيكا إلى جانب مئات الآخرين – حوالي 800 عاملاً في المطار بحسب تقديرها و400 من مناطق أخرى من الهند – بشكلٍ متواصل على تنظيف مطار كوتشين. وتمّ ترميم المطار بأكمله بعد 200 ألف ساعة إنتاجية وفّرها حوالي 833 شخصاً عملوا على مدار الساعة لفترة عشرة أيام.

وبحلول 22 آب/ أغسطس، أي بعد أسبوع على الفيضان، كان المطار شبه جاهزٍ لاستهلال العمل. غير أنّ المسؤولين عن الحفاظ على سير العمل في المطار، كفريق الدعم، لم يكونوا جاهزين. وقد قدّرت إدارة المطار أن 90 في المئة من موظّفي شركة الطيران والمطار لن يتمكنّوا من الحضور للعمل، نظراً للفوضى التي عمّت حياتهم من حيث الالتجاء في المخيّمات جرّاء الدمار الذي لحق بمنازلهم وعدم القدرة على الوصول بسبب الطرقات التي تضرّرت بفعل السيول، والأوبئة التي بدأت بالانتشار كحمّى الجرذ (داء البريميات). وبعد الاجتماع بوكالات شركات الطيران وموظّفي المطار، أعلن(8) المطار أنه لن يفتح أبوابه قبل أسبوع.

وقدّر مطار كوتشين كلفة الإغلاق لمدّة أسبوعين بلمياري روبيز، أي 27 مليون دولار(9). إلا أن الرقم النهائي لعقبات غياب موسم الاحتفال بمهرجان "أونام" على الاقتصاد المحلّي لن يتجلّى بوضوح قبل أشهرٍ أو حتى سنوات. فعادةً، يتوافد الآلاف من الكيرليين من أنحاء العالم كل عام للاحتفال بهذا المهرجان. لكن إغلاق المطار لفترة أسبوعين قضى على الموسم السياحي.

وقال براسانث نير، نائب وزير حكومة الهند في وزارة الطاقة الجديدة والمتجدّدة: "يشكّل أونام العلامة التجارية للاحتفالات في كيرلا، كما أنه أكثر المواسم نجاحاً في المبيعات. ويستعين أصحاب المحال التجارية بقروضٍ مصرفية لابتياع المزيد من البضائع، حيث أن معظمهم كان قد خزّن فائضاً من السلع تحضيراً لنسبة هائلة من المبيعات، ثم جاء الفيضان وابتلع كل شيء. ولم يقم أي منهم بالتأمين على السلعكون هذا الأمر لا يحتلّ صدارة ما يقلقهم على تجاراتهم. ذر."

ويمكن حتّى لفيضان صغيرٍ نسبياً أن يتسبّب بتكاليف غير متوقّعة بعد أشهر من حدوثه. في الولايات المتحدة، أدّى هطول الأمطار الغزيرة جرّاء إعصار "إيرما" في أيلول/ سبتمبر 2017 إلى فيضانات خطيرة في إيموكالي في ولاية فلوريدا، حيث توجد زراعة غالبية محصول الطماطم الطازجة الذي يتم بيعه في أنحاء البلد. ويعيش في تلك المنطقة ويلسون بيريز، وهو أحد العمّال الزراعيين الذين يقطفون هذه الطماطم.

التجأ بيريز وولده جوزي، إبن الرابعة من العمر، لمدّة أسبوع داخل مدرسة إبتدائية حيث احتشد مئات من الأشخاص منتظرين انخفاض منسوب مياه الفيضان. وواجهوا بعدها الدمار الذي يزداد وجهه ألفةً حول العالم: حطام ومياه موحّلة ملؤها النفايات غمرت المنطقة بأكملها بروائح كريهة لمدّة أسابيع. ومرِض بيريز وجيرانه، وبخاصة االأطفال. فبعد انحباسهم داخل الملجأ خلال الأسبوع الذي كان من المفترض أن يكون الأسبوع الأول من العام الدراسي، أراد الأطفال اللعب في الخارج. عندما عاد قطّافو الطماطم في إيموكالي إلى مقطوراتهم الباهظة الثمن على رغم اهترائها، كان مستحيلاً أن يمنعوا أولادهم من القفز في المياه المتّسخة. وقال بيريز:" اعتبروها كالبحر أو البحيرة أو حوض السباحة. قلت لهم أنها قد تسبّب أمراضاً، لكن ذلك لم يمنعهم من اللعب ووهذا جزء من الطفولة."

في النهاية، تم التعويض عن الأضرار الجسدية التي تعرّضت لها الحقول والمزارعين على حد سواء. لكن تعطيل العمل في الحقول والمشاكل التي واجهها العاملون فيها أدّت إلى التأخير في موسم الزراعة الشتائي. وبعد مرور شهرين، أدّى ذلك إلى شح في محصول الطماطم، ممّا تسبّب بدوره بارتفاع الأسعار إلى حد مضاعفتها(10) في أنحاء البلد، بدءاً من كاليفورنيا ووصولاً إلى إيلينوي(11). وتحدّثنا إلى مايكل شادلر، نائب المدير التنفيذي لشركة "فلوريدا تومايتو إكستشاينج" Florida Tomato Exchange التي تمثّل العضوية فيها حوالي 95 في المئة من الطماطم المزروعة في فلوريدا، فقال: "فجأةً، وبحلول منتصف تشرين الثاني، ارتفعت الأسعار في الأسواق بشكل سريع بسبب افتقار هذه الأسواق إلى مخزون الطماطم المتوقّع." وأضاف: "وتصاعد سعر صندوق الطماطم خلال فترة قصيرة من حوالي 10 دولارات للصندوق إلى 15 دولاراً فعشرين دولاردولار . وبحلول منتصف كانون الأول أو آخره، قفز السعر إلى 30 دولاراً."

وتماماً كما يشير عالِم الاقتصاد، جينا، فإن الخسارة الأكبر التي تكبّدها كل من التجارات والسكّان تكمن بكل بساطة في ما لم يتمّ – أي ما يسمّيه علماء الاقتصاد كلفة ضياع الفرص، وما يسمّيه بقيّتنا المستقبل: إنها الشهادات التي لم تُكسب والادّخارات التي لم تُستثمر والمشاريع التجارية الصغيرة التي فقدت فرصة النمو والازدهار.

وفي 25 آب/ أغسطس، أي بعد مرور عشرة أيام على الفيضان، احتفل أرون وأمبيكا بوليمة "أونام" حول قارورتي مياه ورزمة خبز استحصلوا عليها من مخيّم الإغاثة. وقالت أمبيكا: "شعرت بالحاجة إلى البكاء."

ملأ الوحل منزلهم. وفقد ما لا يقل عن 483 شخصاً حياتهم(12). حمّى الجرذ قد بدأت بالانتشار. أمضى أرون وشقيقه آبين أياماً على إنقاذ الناس من المياه مستعينين بقوارب مصنوعة يدوياً. وحين عادوا إلى منزلهم، وجدوا ثلاث أفاعي سامّة وقاتلة في حديقتهم. فقدَ شقيق أرون كتب الهندسة الدراسية وبذلك، فرصة التحضير لامتحاناته القادمة. وعندما وجدها مدمّرة، أخذ يجهش بالبكاء.

وفي الإجماع، فقدت أمبيكا وولديها سوية 18 يوماً من العمل وممتلكات بقيمة 1500 دولار: سراير وطابعة وحاسوب وغسّالة وآلة خياطة وفرن ودرّاجة نارية وآلة تجهيز الأغذية وآلة لصنع المشروبات الغازية وراديو وتلفزيون.

والأسوأ من ذلك كان اختفاء كلبهم "ميسي" الذي لا محالة قد غرق، إذ أنه لم يغادر الحديقة. وقالت أمبيكا: "حزنّا جميعاً لأنه غادرنا."

وأضاف أرون: "تحطمّت قلوبنا. خسرنا كل شيء."”

لماذا أصبحت الفيضانات أكثر شدّةً؟

في 7 آب/ أغسطس، في تورونتو، كان كليفر فريري وغابرييل أوترين يعملان حتى ساعة متأخرة من الليل في المكتب، حين قاما بأمرٍ هو عادةً بغاية الأمان: ركبا المصعد للنزول إلى موقف السيارات السفلي للاطمئنان على سيارة فريري.

لكن ذلك اليوم لم يكن يوماً عادياً. فقد كانت تورنتو قد شهدت عاصفةً عنيفةً ومفاجئة تسبّبت بهطول ما يقارب 72 مم من الماء في ظرف ساعتين فقط. غاص المصعد في الماء التي أخذت تتسرّب إلى داخله محدثةً صوتاً قوياً، ثم توقّف عن العمل. تعطّل هاتف الطوارئ وأبت فتحة السقف أن تتحرّك. وعلى رغم كل محاولاتهم بخبط الأبواب لفتحها، بقيت مغلقة نتيجةّ للإجراء الأمني لحالات الحريق. هنا كانت سخرية القدر..

عجزوا عن الخروج فيما كانت الماء تتسرّب إلى داخل الغرفة. تدفّقت الماء إلى داخل المصعد وأخذت ترتفع. لو وصل مستواها إلى أعلى الغرفة، غرقا.

ليست الفيضانات واقعةً جديدة، بل هي من أقدم القصص في تاريخ البشرية. إلا أن السنوات الأخيرة بدأت تشهد ازدياداً في شدّة الفيضانات ومفعولها الكارثي. وتشكّل الفيضانات أكثر أشكال الكوارث الطبيعية حدوثاً(13) حول العالم، علماً أن نماذج الطقس المتغيّرة قد تسبّبت في زيادة عدد الكوارث الطبيعية خلال مدّة حياتنا.

وليس من يعي هذا الواقع أكثر من شركات إعادة التأمين التي تغطّي المخاطر - كالزلازل والفيضانات والبراكين وغيرها من الكوارث الطبيعية – ذات الكلفة الباهظة والتي تعجز شركات التأمين الفردية عن التكفّل بها وحدها. وبحسب تحليل أجرته شركة "ميونيخ ري(14) إنشورانس غروب" Munich Reinsurance Group (Munich Re)، فإن وتيرة "الأحداث التي تسبّب خسائر مناسبة" - أي الأحداث التي تؤدّي إلى خسائر بشرية أو إلى حدّ معيّن من الخسائر المادية للممتلكات(15) والمعدّلة بحسب المدخول الوطني – قد ارتفعت بين ثلاثة وأربعة أضعاف منذ عام 1980. ويأتي العام الماضي، أي 2017، في المرتبة الثانية على لائحة الأعوام الأكثر كلفةً.

وقال إرنست راوش، العالم الرئيسيي في المناخ والجغرافيا لدى Munich Re: "نلحظ بوضوح ارتفاعاً في عدد الكوارث الطبيعية حول العالم، علماً أن هذا الارتفاع ناتجٌ بشكل شبه كامل عن الكوارث المرتبطة بالمناخ."

مع ارتفاع حرارة الأرض، يتمكّن غلافها الجوي من احتباس المزيد من البخار المائي. ويؤدّي تصاعد نسبة الرطوبة في الجو إلى المزيد من الأمطار المفاجئة والعنيفة - وفي المقابل، إلى المزيد من الجفاف. وقال أندريا داتون، وهو أستاذ مساعد في الجيولوجيا في جامعة فلوريدا وخبير في ارتفاع مستوى سطح البحر: "عندما تهطل الأمطار، تكون أكثر غزارةً بسبب تصاعد نسبة الرطوبة في الجو."

إن الارتفاع في درجات الحرارة يتسبّب أيضاً ارتفاع منسوب مياه البحر. والعامل الأكبر في هذا الموضوع هو التمدّد الحراري – فالمياه الساخنة تتّسع وتتطلّب مساحةً أكبر – خاصةً وأن المحيط يمتصّ غالبية حرارة الأرض المتزايدة الارتفاع. أمّا العامل الأساسي الآخر فهو تسارع عملية ذوبان جبال الجليد والصفائح الجليدية في البحر. وقد أظهرت دراسة حديثة(16) أجراها ثمانون عالماً من حول العالم أن وتيرة ذوبان الجليد في المحيط أسرع بكثير ممّا كان معروفاً من قبل. واكتشفوا من خلال تطبيق البيانات المجمّعة من استطلاعات الأقمار الصناعية فوق المنطقة أن وتيرة انهيار الجرف الجليدي قد تسارعت بنسبة ثلاثة أضعاف بين عامي 1992 و2017، ممّا ولّد نوعاً من دوران حركة الموج في تغذية مرتدّة من المتوقّع أن تسبّب ارتفاع منسوب المياه أسرع ممّا كان معتقداً.

ويمكن للمدن الساحلية التي تتعرّض لكلي التغييرين – أي ارتفاع نسبة سطح البحر والأمطار الغزيرة – أن تشهد فيضانات أكثر قوّة بفعل اندماج هذين العاملين. فارتفاع منسوب البحر يعني أيضاً ارتفاع سطح الماء الباطني، إذ أن التربة التي تكون قد امتصّت مياه البحر وتشبّعت بها غير قادرة على امتصاص مياه المطر عندما يبدأ بالهطول بغزارة. وقال داتون: "تشهد المناطق الساحلية حيث ارتفع منسوب البحر مستوًى أعلى من التشبّع. وبذلك، فإن المياه التي من المفترض أن تتسرّب إلى باطن الأرض لا تجد سبيلاً سوى القبوع على سطح الأرض أو محاولة الجريان عليه."

واليوم، يعيش 40 في المئة من سكّان الأرض على مسافة أقصاها 100 كلم من الحدود الساحلية(17)، علماً أن التغيير المناخي يشكّل أحد أسباب التزايد المستمرّ في هذه النسبة. فالجفاف الحاصل يقوم أكثر فأكثر بدفع سكّان القرى إلى النزوح إلى ضواحي المدن الرئيسة في العالم التي تقع في غالبيتها – أي ثماني من أصل مدن العالم العشرة الأكبر(18) – مباشرةً على الحدود الساحلية أو على مقربة منها. وغالباً ما ينتهي الأمر باستقرار النازحين في ضواحي المدن الساحلية، على غرار المنطقة الموجودة خلف مطار كوتشين حيث تعيش عائلة ثانكابان وغيرهم من العاملين في المطار. وتكون هذه المناطق عادةً أكثر عُرضةً للفيضانات.

وتزيد الفيضانات حدّةً وتدميراً بفعل اندماج كل من عامل ازدياد العمران الحضري والتغيير المناخي والبنى التحتية المهمَلة والقديمة. فقد تمّ تصميم معظم البنى التحتية العالمية لخدمة عالمٍ لم يشهد التغيير المناخي. ويأتي مثال على ذلك سدّ "إيدوكي" في كيرلا الذي تم بناؤه عام 1976 .أجزاء من نظام تصريف مياه العواصف في تورونتو(19) بُنيت منذ قرن. لكن حتّى الأنظمة التي تمّ بناؤها خلال النصف القرن الماضي لم تأخذ في الحسبان كمّية ارتفاع مستوى المياه أو سرعة ارتفاعها.

وقال ج. مارشال شيبرد، مدير برنامج علوم الغلاف الجوي (Program in Atmospheric Sciences (20 في جامعة جورجيا والخبير في علوم الطقس والمناخ(21): "توقّعوا أن عواصف العام 2018 ستكون شبيهة بعواصف العام 1970. لكنهم أخطأوا."

في تورونتو، وقف فريري وأوترين في المصعد يراقبان مستوى المياه الذي كان قد وصل إلى خصرهما ولم يتوقّف. وقفا على الدرابزينات الحديدية فانكسرت. أخذا يسيران في الماء ويصلّيان ويصرخان طالبين النجدة.

أخيراً، تمكّنا من إحداث فتحة صغيرة بين صفائح السقف الحديدية لإخراج الهاتف النقال والتقاط البث الخلوي لإجراء مكالمة وطلب النجدة. سبح الشرطيّان اللذان استجابا للنداء عبر الطابق السفلي وقاما بخلع باب المصعد بواسطة قضيبٍ حديدي فيما كان يتنفّس الرجلان داخل المصعد في قدمٍ واحدٍ فقط من الهواء(22). وكان من حسن الحظ أن حافظ الرجلان على قوة كافية للسباحة نحو المخرج عبر الموقف المغمور بالمياه. وعلى رغم تدريب فريري في عمل الإنقاذ، أرهقته التجربة إلى حدّ استعانته بمساعدة الآخرين في عملية الخروج.

نجا كل من فريري وأوترين. إلا أن صورة رجلين على وشك الغرق داخل مصعد قلبت كل مقاييسنا لمفهوم الأمان. فالحكومات البلدية وأصحاب المباني يوفّرون التعليمات الأمنية التي تحضّرنا لمواجهة الحرائق وأعمال الإرهاب؛ ولكننا نحتاج اليوم إلى تعليمات لمواجهة عالم أكثر مائية.

وقالت تانيا كاسيريس، وهي محلّلة مخاطر تعيش في تورونتو وتوفّر خدمات استشارية لكبار شركات البناء والاستثمار والعقارات المؤسساتية: "نلقنّهم كيفية الخروج من المبنى في حال الحريق لكننا لا نحدّث الناس عمّا يجب فعله إذا ما غمرت المياه المبنى. يعلمون كيف يتصرّفون في حال التهديد بانفجار قنبلة، لكن احتمال هذا التهديد أدنى بكثير من احتمال حصول فيضان في هذه الأيام."

وتقوم بعض المدن بالتخطيط لحوادث الفيضان. ومع ارتفاع منسوب المياه، فإن القبول بفكرة العجوزعن إيقاف الفيضانات يشكّل إحدى طرق التحضير لها، وربّما حتّى اعتناق هذه الفكرة. منذ أيّام الملك كانوت(23)، عاشت مدن أوروبا الشمالية تاريخاً طويلاً من القناعة بواقع العيش مع حتميّة المياه. ويساعد على ذلك تمتّع هذه البلدان باقتصاد ذي دخل عال.

في مدينة هامبورغ المينائية التي تشكّل مركز النقل البحري في شمالي ألمانيا، فاض نهر إلب على ضفافه عام 1962 مودياً بحياة أكثر من 300 شخص ومدمّراً ستّة آلاف منزل. ومنذ حينها، قامت هامبورغ ببناء نظام سدودٍ حول المدينة. لكنها أيضاً أقدمت على خطويتين جعلتا العمل على الحماية من الفيضانات حتّى أكثر ضرورةً، إذ أنها استثمرت ثلاثة مليارات يورو في هافن سيتي(24) HafenCity، وهو مشروع إعادة إعمار مناطق الميناء القديم على طول جانب النهر. كما أنّها حفرت إلى مستويات أعمق في نهر إلب، ممّا قد يفاقم مدى ارتفاع الموج الذي يدخل من البحر، وذلك لاستيعاب سفن الحاويات التي تساعد على ازدهار المدينة. واختارت مدينة هامبورغ بذلك أن تخاطر باحتمال حدوث فيضان ودفع مبالغ كبيرة للحؤول دونه، بهدف الحفاظ على ازدهار مراكز الربح فيها.

وبحسب التوقعات الحالية، فإن التغيير المناخي سيعرّض بحلول نهاية هذا القرن خمسة ملايين من سكّان أوروبا بما يُعرَف بفيضانات المئة عام(25)، كل عام. في سنة 2012، قرّرت حكومة البلدية رفع مستوى ممشى جانب النهر من 7،2 متراً إلى 8 أمتار ثم إلى 8،9 أمتار للحماية من العواصف المستقبلية. وتبقى كلفة هذا المشروع البالغة 86 مليون دولار أوفر من ثمن التعويض عن الأضرار التي يخلّفها الفيضان.

"لا شكّ في ذلك، إذا ما قارنّاها بكلفة الفيضان في المدينة". هذا ما قالته جان هوبنر، وهي مهندسة تعمل على مشروع بناء حائط الوقاء من الفيضان منذ 12 عاماً، كانت بدايتها مع شركة زها حديد للهندسة (Zaha Hadid Architects (26 المعروفة عالمياً والتي تترأس المشروع، لتنتقل بعدها إلى منصبها الحالي كشريكة في studioH2K Architekten. وأضافت هوبنر: "بالنسبة إلى مدينة كهامبورغ، وبخاصة وسط مدينة هامبورغ – نظراً لكثافتها السكانية وانتشار البنى التحتية والمترو وكثرة المكاتب التجارية – أعتقد أن القبول بالفيضان هنا ليس خياراً."

طبعاً، لا يجب أن يكون الفيضان خياراً في أي مكان في العالم. بعد مرور ثلاثة أسابيع على الفيضان في كيرلا، وفي 7 أيلول/ سبتمبر، كانت أمبيكا لا تزال تدعك بيديها ثياب عائلتها لإزالة بقايا الوحل منها. وافترشت كتب العلم والهندسة بساطاً من القش المحبوك، علّها تجفّ تحت أشعّة الشمس. وقال أرون: "نأمل بأن نتمكّن من إنقاذها."

وفي خضمّ كل هذا، كان بصيص أمل: الكلب "ميسي". كان متمدّداً تحت الطاولة متمتّعاً بظلّها، فيما أخذ يهزّ جسده بالكامل ليفركه بالتراب.

وكان أحد أفراد العائلة قد وجده بعد عشرة أيام من الفيضان شبه هافٍ وفي حالة من الصدمة، فأحضره إلى المنزل. وحين نادته أمبيكا باسمه، قفز على قدميه الخلفيتين لاستقبالهم. وقالت أمبيكا: "بعد أن عاد، كنا سعداء جميعاً." وكان في البداية ضعيفاً جداً، حتى أنه لم يكن يستطيع تناول الطعام من دون ان يبكي، فأطعموه البسكويت إلى أن تمكّن من تناول الطعام الصلب.

وأضافت بابتسامة: "إنه بخير الآن" فيما كانت تلقي صحناً من الرز والسمك على الأرض كي يأكله. "يحتاج إلى حصّة من كافة المأكولات التي نحضّرها. يباشر بالنباح متى اشتمّ ولو أثراً من رائحة الطعام."

وقد اكتشفوا لاحقاً أن أطفال الحي هم الذين أنقذوا "ميسي" عندما أتت المياه. فقد حملوه على أكتافهم ونقلوه إلى منطقة مرتفعة. أمّنوا له الطعام إلى أن غمرت المياه تلك المنطقة أيضاً ومن ثم اختفى.

إن أحدث الفيضان أمراً جيداً واحداً، فهو الآتي: عمل الجميع على مساعدة بعضهم البعض. أقدم مئات صيادي الأسماك على ساحل كيرلا على تحويل قواربهم إلى زوارق إنقاذ وأنجدوا الآلاف من الأشخاص من الغر(27). من جهته، أمضى أرون أياماً برفقة شقيقه ينقذان الآخرين على قارب صنعاه يدوياً بواسطة أنبابيب شاحنات النقل، وصلوها ببعضها البعض وغطّوها بألواح من الخشب الرقائقي. قاموا بربط الحبال بين عواميد الكهرباء ليمسك بها العجزة والأطفال حتى لا تجرفهم مياه السيول. أمّا في إيموكالي في ولاية فلوريدا، فقد قام السكّان في كل أنحاء الولاية بتحضير الوجبات وتسليمها إلى من كانوا محصورين في الملاجئ.

في الوقت عينه، عمل ستة آلاف متطوّع حول العالم، منهم من الجاليات الكيرالية، على مدار الساعة لتنظيم عمليات الإنقاذ من مواقعهم أينما وُجدوا. وقد تمكنّوا من التعرّف على مواقع الناس العالقين على سطوح المنازل أو في داخلها وتحديدها جغرافياً منذ مراكز الاتصالات في كوتشين وبنغالور وتشيناي وغيرها من المناطق، ثم أرسلوا إاليهم عمّال الإنقاذ..

يقوم الناس باختراع شبكات مؤقّتة وغير رسمية لمساعدة بعضهم البعض لدى وقوع الكوارث. إن فيض هذه الأعمال الخيرية أمرٌ مذهل، لكنه ليس فريداً من نوعه. ويجد علماء الاجتماع الذين يدرسون الكوارث أن الناس يميلون إلى مساعدة بعضهم البعض في حالات الكوارث أكثر منه الاعتناء بأنفسهم. وتفقد التمييزات الاجتماعية أهميتها ولو لفترة قصيرة. وأشارت بريما كوماري، حابكة النول اليدوي من كيرلا، إلى أن "الفيضان لا يعرف الطبقيّة."

وعندما تنتهي الأزمة، يعود معظم الناس إلى ما يُعرَف بالحياة الطبيعية، فتختفي هذه التجارب العابرة. لكن ماذا لو لم تختفِ؟ ويأمل نير في الوزارة الهندية للطاقة الجديدة والمتجدّدة أن يستفيد من اندفاع هؤلاء الآلاف من المتطوّعين وعزمهم لبناء نسخةً جديدة عن مسقط رأسه تكون أكثر استدامةً ورأفةً.

وقال نير في هذا الصدد: "كان يميل الناس إلى ردم قسمٍ صغيرٍ من النهر، أو حتى الاعتداء على مساحة صغيرة من النهر لبناء قصورهم الهائلة الحجم؛ وكانوا يظنّون أنفسهم أذكياء في إقدامهم على هذه الأمور. ليست هذه الطريقة التي نبغي اتّباعها لإعادة الإعمار. تمّ أيضاً الإعلان عن مشاريع بناء كبيرة دون الأخذ بعين الاعتبارر تأثيرها على البيئة. علينا ألا نعيد الكرّة."

 

للمزيد من المعلومات حول منهجية عملنا على هذا المقال، الرجاء الاطّلاع على البيانات.